بقلم الأخت جومانا عون الساليزيانية
كلّنا نعلم كم يُعتبر وجود الأم في حياة الطفل أمرًا أساسيًا لنموّ حياته بسلام. يذكّرنا عيد الميلاد بأن الله نفسه، بمجرد أن صار إنسانًا، احتاج إلى أمٍ ترافقه في نموه.
إذا نظرنا عن كثب إلى تاريخ حياة القديس يوحنا بوسكو، الذي لقّبه البابا بيوس التاسع بأمير التربية، نرى الدور الاستثنائي للأم مارغريتا، والدته، ودعمها لدعوته، ولكن لا يمكننا أيضًا نسيان الدور الحاسم الذي لعبته العذراء مريم في حياته.
يوحنا بوسكو هو الذي أخبرنا ما قاله له الرجل الجليل في حلم التسع سنوات، والذي كان له تأثير كبير على كلّ مسيرة حياته: “سأعطيك المعلمة التي تحت إشرافها، يمكنك أن تصبح حكيمًا” وعندما سأله عن اسمه أجاب: “أنا ابن تلك العذراء التي علّمتك أمّك أن تحييّها ثلاث مرات في اليوم.” (صلاة التبشير الملائكي)
تكشف لنا هذه الكلمات، عن عادةٍ مستمرة لدى يوحنا الصغير الذي كان يحييّ العذراء مُصلّيًا صلاة التبشير الملائكي صباحًا وظهرًا ومساءً. صلاة تقليدية في ذلك الوقت خصوصًا بين الناس في الريف، التي حوّلت عمل يوحنا بوسكو إلى صلاة.
من هي مريم العذراء في روحانية القديس يوحنا بوسكو؟ مريم العذراء هي:
- مريم الأم في الحياة اليومية العادية:
يوحنا بوسكو منذ نعومة أظفاره، شعر بحضور مريم العذراء كأمّ بجانبه كلّ يوم أثناء عمله، وأثناء صلاته. إنها الأمّ التي تهتمّ به في وقت الضيق ووقت الفرح، وفي اللحظات الصعبة، تأخذه بيده وتقوده. هذا هو الحب البنوي للعذراء مريم الذي نقله دون بوسكو إلى صبيانه: المحبة التي تتجلّى في اللقاء المُعتاد، المنزلي، العائلي مع “أم الأيام العادية في الحياة اليومية“.
- مريم المعلّمة الحكيمة:
مريم العذراء بالنسبة ليوحنا بوسكو، هي المعلّمة التي سلّمه يسوع الى قيادتها لكي توجّهه في تتميم المهمّة التي تنتظره.
“ها هو حقلك، هنا يجب أن تعمل. كن متواضعًا، قويًا، وحكيماً وما ستراه يحدث لهؤلاء الحيوانات في هذه اللحظة، يجب أن تفعله لأجل أبنائي”. هذا ما قالته العذراء للصغير يوحنا في الحلم. ومنذ ذلك الوقت، اعتبر يوحنا بوسكو مريم العذراء أمًّا للشباب الأكثر فقرًا والمُهملين والمعرّضين للخطر. أولئك الذين، في نهاية الحلم، يتحوّلون من حيوانات برّية إلى خراف هادئة، “ترقص بفرح حول ذلك الرجل وتلك السيدة“.
يوحنا بوسكو ليس فقط يتلقى توجيهًا من العذراء لحقل العمل، بل أيضًا للطريقة التي تمكّنه من القيام بمهمته، وهي اللطف والوداعة التي بواسطتهما سيكون قادرًا أن يكسب محبة الشبيبة.
“ليس بالضرب، ولكن بالوداعة والمحبة يجب عليك أن تكسب أصدقاءك هؤلاء. لذا ابدأ فورًا في تعليمهم حول قبح الخطيئة وقيمة الفضيلة “. تعلّم يوحنا الصغير من مريم العذراء فن التربية. دعمته طيلة حياته في النمو في فضيلة التواضع، والقوة والحكمة لإحداث تحوّل في الأولاد، خاصةً العنيفين منهم، وتحوّلهم إلى خراف، الى أولاد لله، لا بل وأكثر من ذلك، إلى رعاة جريئين، ومسيحيين قديسين. نذكر على سبيل المثال لا الحصر القديس دومنيك سافيو.
بقي يوحنا بوسكو وفيًّا لهذا التعليم طيلة حياته مع كلّ ما كلّفه ذلك من تضحيات. “لم أخط خطوة إلا بأمر من العذراء مريم”، كتب في مذكّراته.
- مريم مُلهمة الرسالة السالزيانية:
بدأ القديس يوحنا بوسكو رسالته مع الشبيبة بصلاة “السلام الملائكي” مع بارتولوميو غاريللي، أحد الصبية المشرّدين، المُهملين. إن تلك الصلاة كانت الشرارة الأولى لانطلاقة الرسالة السالزيانية في العالم، المتمثّلة حالياً بالعائلة السالزيانية التي تتألّف من 31 عائلة رهبانية وعلمانية مكرّسة حتى الآن.
نرى يوحنا بوسكو، قبيل موته بعد أن قدّم حياته بأكملها لشبابه، في كاتدرائية القلب الأقدس في روما، يحتفل بالقداس على المذبح المخصّص لمريم أم المعونة، يبكي ويقول: “مريم قامت بكلّ شيء“.
في 26 يناير 1854: قال دون بوسكو لأولاده الذين نشأوا بجانبه وأصبحوا أول مساعديه: “السيدة العذراء تريد أن نبدأ جمعية. سنسمي أنفسنا السالزيان”، نسبة الى القديس فرنسيس السالسي الذي كان يشتهر بوداعته وحزمه ومنه استمدّ دون بوسكو روحانية الرهبنة وجعله شفيعها. وقال لدون جوفاني كالييرو، أحد أبنائه الذي أصبح أسقفًا: “مريم العذراء هي المؤسسة والداعمة لأعمالنا”.
إن ثقة دون بوسكو الكبيرة بالعذراء لم تظهر بشكل مفاجيء، ولكنها نَمَت تدريجياً من خلال الأحداث العادية والاستثنائية التي شعر فيها بتدخّلها في حياته وحياة أولاده.
ختم دون بوسكو: ” في البداية لم أكن أعي ما يحدث. ولكني فهمت الأمور تدريجيا عند حدوثها أو بعده” …
جسّد دون بوسكو إمتنانه لمريم العذراء التي كانت دائمًا إلى جانبه عن طريق تأسيسه لجمعية “بنات مريم أم المعونة” المعروفات باسم “راهبات دون بوسكو” مع القديسة ماريا دومينيكا مازاريلو، فتاة ريفية بسيطة ولكنها تملك في داخلها نفس الكاريزما الذي يملكه دون بوسكو. أراد لهذه الجمعية أن تكون صرحاً مُكوّناً من حجارة حيّة كعربون شكر دائم للعذراء مريم ، من خلال العمل لخلاص الشبيبة.
دعونا نستمع إلى دون بوسكو الذي يقول لنا أيضًا: “إذا كان لديكم محبة وثقة في العذراء مريم، فسترون ما هي المعجزات“.
إنّ أكثر ما نتمنّاه هو أن نشعر دائمًا بقُرب العذراء مريم في حياتنا، كأم، معلمة، مرشدة، ومُعينة في أوقات الصراع من أجل نمو إيماننا، هي التي تقود خُطانا دوماً صوب اللقاء مع يسوع ، قائلة لنا : ” إفعلوا كلّ ما يأمركم به“.