بقلم الأخت جوزفين بو منصف
من رهبانية مار يوحنا المعمدان – حراش
“لقد خلقتنا لك يا الله، ويبقى قلبنا مضطربًا إلى أن يستريح فيك”
إنها صرخة القديس الكبير اغسطينوس، صرخة إيمانٍ وحُبٍّ خالص نابع من قلب إنسان اختبر ضرورية حضور الله في حياته كي يبلغ الى هدفه واكتمال وجوده.
فالله خلقنا من ذاته، زرع فينا روحَه – نَسَمةَ حياة نعبر بها هذه الدنيا ونحقق ذواتنا. لم يخلقنا الله ويتخلى عنا، بل غرس فينا بوصلةً اصيلة تقودنا اليه دومًا نُمَيِّز ونهتدي بها إليه. بيد أنه هو الآخر غير المنظور، الحاضر دومًا والمحتجب، المختلف عنا بطبيعته والمغروس في أعماقنا بفعل حبّه وإرادته، لا ينبري يدعونا الى لقائه. فهو يرنو لصنع يديه ونحن تضطرب قلوبنا وكياننا ولا نرتاح الا بلقياه. من هنا تظهر الحاجة المـُلِحَّة التي تسكننا لنلتقي بذلك الآخر المختلف لنعرف ذواتنا ونحقق كمال وجودنا فيه وبه ومعه.
ترجم الإنسان عبر العصور هذه الحاجة وعبّر عنها بطرق مختلفة تتناسب وطبعه ومحدوديته وطموحاته. فأظهر وسائل عديدة منها التّكرار. فالطفل ان احتاج طعامًا أو حُبًّا بكى ونادى أمّه متأوِّهًا اليها مصدرًا اصواتًا متكررة يستغيثها بواسطتها لتستجيب دعاءه. وكلما كبر ونضج عبّر عن باقي احتياجاته ورغباته وتطلعاته معتمدًا الطريقة عينها أحيانًا ومعدِّلًا بطرحها بحسب امكانياته. فالصلاة لله هي هكذا، حاجة باطنية يعتمدها الإنسان طوعًا وطبيعيًا محفَّزًا بدافع داخلي وهو ذاك النَّفَسُ الإلهي الذي غرسه الله فيه منذ تكونه. فالروح يُصلّي فينا بأنّاتٍ لا توصف ولا ينفكّ يحثُّنا للبحث عن الله والعيش في كنفه. لذلك نجد أن الصلاة ولقاء الله هي راحة لكل انسان، عبّر بها بطرق مختلفة عبر التاريخ وعلى اختلاف الحضارات. ومن هذه الطرق المتنوعة نجد صلاة المسبحة التي تعود الى عصور متوغّلة في القدم، تستند بفطرتها على تكرار الطلب او النداء. فالطفل ينادي أمه باستمرار، بسبب وبدونه، ويردد النداء مرارا وتكرارا ليشعر بالرضى أو المتعة احيانًا، أو عن الزام احيانًا اخرى. فترداد اسمها او ترداد النداء لها هو أمر فطري قد يكون ملزمًا عليه بطريقة لا واعية. ومع الترداد يبدأ النمو، ويبدأ الطفل باستكشاف قصده والوعي لنفسه ومبتغاه كما والوعي لأمه وحقيقة وجودها في حياته، ومع الوقت يتخطّى هذا الأمر ببساطته وسطحيته ليبلغ الوعي لحقيقة حاجته لذلك الأكبر والأقدر والمطلق الآخر الذي أوجده هو وأمه فيتسامى بالتكرار لاسم امه الى تكرار اسم ذاك الآخر الذي باتّحاده به يحقّق معنى وجوده. فتكرار الصلاة هو عملية انسانية محضة، نمطية أوجدها الإنسان ليشبع ظمأه للتلاقي مع ذاك المطلق، مع المحبة العظمى، أعني بها الله. وأخذتها الكنيسة لتوجّه سلوك مؤمنيها نحو الأفضل. وإن كانت الأم وسيلة نفهم بها الحب بأسمى عباراته، فأمّ الله هي أرقى وأعذب وأقرب كائن منا حمل الله في أحشائه ووهبه للإنسان عطيّةَ حياةٍ وغرسةَ خلود. من هنا ضرورة لجوئنا الى تلك التي ببساطة انسانيتها ونقاوة حبِّها ودفء وطيبة قلبها قبلت الله خالقها في أحشائها وكانت له جسر عبور وتلاقٍ مع خليقته.
فالكنيسة من خلال المسبحة تردّد السلام والحب لأمّها بصلاةٍ لا تنقطع، تتكرّر دون ملل وبإصرار ووعي وحبٍّ عميق وصادق، تتأمل من خلالها بقصد الله وتدبيره الخلاصي لنا وبحياة فاديها وعريسها يسوع الذي منحها الخلاص والسعادة والحياة الوافرة. فحقيقة الكنيسة وكينونتها تكمن في ما تعيد تلاوته وتتمرّس عليه مرارًا وتكرارا. وباعتيادها هذا التكرار والنداء الذي لا ينقطع تتميّز وتسمو وتتعمّق أكثر فأكثر في صلب سرّ الله. وهذا التكرار يتحدّى بجوهره العقل والحواس والروح وجسد الإنسان لأنه وسيلة فعالة للإتّحاد بالله فيصبح حركة تصاعدية تلقائية ترتفع بنا الى عمق كيان الله.
ان صلاة المسبحة هي حركة تصوفية باطنية بامتياز نتبناها ونعتنقها فتصبح بمثابة وسيلة استنارة داخلية تنير خُطانا في سبل وطرقات غامضة ومظلمة. فيغدو التّكرار في الصلاة وجهًا جديدًا لواقع عميق أوحد وهو محبة الله بواسطة أمّه حاضنة سرّه الخلاصي. وبما أن هذا الحب لا يعرف نهاية، فَسِبحة صلاتنا لن تعرف نهاية هي أيضًا وستتكرّر وتستمر الى ما لا نهاية فترافقنا طيلة حياتنا، وببساطتها وعمقها ترتقي بنا لتصبح صلاة أبناءٍ لله نرنو الى ابينا وخالقنا بلا كلل ولا وجل الى أن نستريح به للأبد…
فَكَم نحن اليوم، في غمرة آلامنا واضطراباتنا حيث الأمراض والأحزان والإنكسارات والحروب والشوائب التي تعتري هشاشة طبعنا، كم نحن اليوم بحاجة الى مدّ جسر تلاقي بواسطة صلاة مسبحة أمنا مريم، لنتّحد بابنها فَنَجِد فيه الإستنارة لمسلكنا وعودةً الى طبعنا الأول؟…