المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
بنعمةِ الله
اسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك

” صلوا كل حين ولا تملّوا، فالصلاة تصنع المعجزات “

إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وإلى أبنائنا الأعزاء في أبرشية الإسكندرية مدينة الله العظمى وفِي بلاد الإنتشار للأرمن الكاثوليك
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسوليّة

” عليكم النِعمَةُ والسلام من لَدُنِ الله أبينا والرب يسوع المسيح ( رومة ١ : ٧ )” وأوصيكم :

” قَدِّسُوا صَوْماً . ونَادُوا بِإحتفال ” (يوئيل ٢ : ١٥)،

أعلن قداسة البابا فرنسيس سنة ٢٠٢٥ “سنة الصلاة “. استعداداً ليوبيل “حجّاج الرجاء” سنة ٢٠٢٥. كل الأبرشيات المنتشرة في العالم، مدعوة إلى تعزيز مركزية الصلاة الفردية والجماعية. لهذا، من خلال تأملاتنا الإنجيلية هذا العام سنشترك مع كل شعب الله. لنعيش صومنا بشكل أفضل، ولنعيد علاقتنا الروحيّة العميقة مع الرب، من خلال الطرق العديدة للصلاة والتي نمارسها من خلال تقاليدنا الكنسية الغنية بالروحانيات، لإن الصلاة وحدها تقربنا من الله، وهي قوة وطريق تؤدي بنا إلى القداسة.

الصوم في الكتاب المُقدّس :

الصوم مبدأٌ روحي وممارسة مُتّبعة في العهدَيْن القديم والجديد، ومُدّته أربعين يوماً. لقد صام موسى على جبل حوريب/ سيناء لمُدّة أربعين يوماً، وإيليّا النبي صام أربعين يوماً، وأيضاً الرب يسوع المسيح صام الفترة ذاتها. والصيام في حياة موسى، وإيليا ويسوعَ ، كان يسبقه أو يتبعه فترة من التجربة التي تحتاج إلى قوّة روحيّة عالية لمحاربتها.
الرقم “٤٠” هو عدد سنوات التيهان التي عاشها الشعب في البريّة بحسب العهد القديم، عِقاباً على تمرّده وعدم ثقته بالله الحي الذي أخرجه من أرض مصر بيدٍ قويّة.
إلى ما يرمز الرماد :
يبدأ الصوم عادةً بِيَوم ” إثنين الرماد “، والرماد رمزٌ للتوبة واعتراف الإنسان بضعفه، ويُذكرنا بيونان النبي حينما نادى أهل نينوى بالتوبة، إذ آمن الملك والشعب وصاموا عن الطعام، وأجبروا حتّى البهائم والحيوانات على الصوم، وجلسوا في المسوح والرماد تعبيراً عن خضوعهم للدعوة الإلهيّة وتلبيةً للتوبة المطلوبة ( سفر يونان ٣). وكذلك نادى يوئيل النبيّ الشعب قائلاً: ” قَدِّسُوا صَوْماً نَادُوا بِاعْتِكَافٍ ” (يوئيل ٢ : ١٥)، تعبيراً عن التوبة والندم على خطاياهم.

وفي إثنين الرماد، تُمارس طقوس الصلاة على الرماد ثم وضعه على رؤوس المؤمنين، مع قول الاسقف او الكاهن للمُتقدّمين ” أذكر يا إنسان أنّك من ترابٍ وإلى ترابٍ تعود ” ( تكوين ٣ : ١٩). بهذه الآية مع وضع الرماد، على الإنسان المُتقدّم أن يُفكّر في ضُعفه البشريّ والرجوع تائباً إلى الله عن كلّ خطاياه، ليبدأ مسيرة الصوم بعودة صادقة إلى الله وبخلاصه الذي عمله على الصليب، إستعداداً للإحتفال بأسبوع الآلام والقيامة المجيدة .

أنواع من الصوم :

الصوم الأوّل يعتمد على الانقطاع عن اللحوم ومنتجات الحيوانات :
تستند الكنيسة في الصوم عن نتاج الحيوان على قصّة آدم وحوّاء والخليقة قبل السقوط. لقد طلب الربّ من آدم وحوّاء بعدما وُضعهما في جنّة عدن أن يأكُلا من شجر الجنّة فقط ولم يعطهما تصريحاً بالأكل من الحيوانات والبهائم، رغم أنّه أعطاهما سلطاناً عليها.

إنّ الذبيحة الأولى في الكتاب المقدّس كانت في سفر التكوين الفصل الثالث ، حينما ألبس الله أبوينا الأوّلين أقمصة من جلد ليستُر عورتهما بعد السقوط، والجلد مأخوذ من الحيوانات عادةً. لذا تنادي الكنيسة بالصوم الانقطاع عن نتاج الحيوان كفعل توبة واشتياق إلى حالة النقاء الأولى التي خُلق عليها آدم وحوّاء، قبل السقوط والإبتعاد عن الله. وهكذا بالعودة إلى تناول ثمار الأرض ” وشجر الجنّة ” ونُقرّ بأنّنا أخطأنا بتمرّدنا على الله، ونُعلن استعدادنا للعودة إليه.

الصوم الثاني الانقطاع عمّا نُحبّ أو ما يُسمّى بالإماتة : وهذا الصوم شائع عموماً حيث يمتنع الإنسان عن تناول أطعمة يُحبّها كالحلويات والشكولاتة وغيرها … والبعض الآخر يصوم عن التدخين أو مواقع التواصل الاجتماعي أو ممارسة سيّئة يُحبّها، وذلك كنوع من إخضاع النفس وتدريبها على مقاومة الشهوات الجسديّة، وبالتالي تكريس الوقت والجهد لقراءة الكتاب المُقدّس ، والصلاة ، والذهاب إلى الكنيسة، والاهتمام بحاجات الآخرين والتطوّع في الخدمات الخيريّة… الخ. ولهذا سُمّيت ” إماتة ” حيث يُميت الصائم شهوته للطعام المُفضّل لديه أو الأمور المُمتعة له، ليضع تركيزه على أمورٍ أخرى للتقرب من الله خدمته وخدمة القريب .

الصوم الثالث الانقطاع التامّ عن الطعام يوميّاً من مشرق الشمس إلى مغربها : وهذا الصوم مارسه الشعب في العهد القديم، وخصوصاً الأنبياء دانيال وموسى وإيليّا ، وأيضاً الربّ يسوع نفسه انقطع عن الطعام كليّاً حتى جاع ، كما كتب لنا القديس متّى الإنجيليّ ( متى ٤ : ١ – ١١ ) .
ويجد الذين يُمارسون هذا النوع من الصوم أنّه تدريبٌ للنفس والجسد والخضوع لله والتوبة له وطاعةً لكلمته. إنَّ هذا النوع من الصوم يعتمد على ترتيب شخصي أو جماعي لحاجة ما تلبيةً لقول المسيح : ” وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ ” (متّى ١٧ : ٢١) .

الصلاة والصدقة :
بالإضافة إلى الصوم، هناك الصلاة والصدقة، حيث يُعتبر زمن الصوم وقتاً لتكريسه للصلاة وقراءة الكتاب المقدّس والتأمّل في عمل الله الخلاصي من أجلنا. وعندما نعرف مدى محبّة الله وعطاياه الكثيرة لنا، نُعطي ممّا حرمنا منه أنفسنا طوعاً للمحرومين بسبب الأحوال الصعبة التي يمرّون بها. وبذلك نتعلّم في زمن الصوم بالتضحية وبذل الذات والمال لمن يحتاجهما، تابعين ما عمله أهل قورنتس الذين أفاضوا في العطاء بسخاء ” فأسلموا أَنْفُسَهُمْ إلى الرّبِّ أوّلاً ، ثم بعمل الإحسان” (قورنتس الثانية ٨ : ٥).

لذا في زمن الصوم، يجب علينا أن نسأل أنفُسنا وبصراحة : ” لماذا أصوم ” “لماذا نصوم” ؟

عندما سألوا الرّبّ يسوع : “لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ ، وَ تَلاَمِيذُكَ لاَ يَصُومُونَ ؟” ، فقال لهم يسوع : “أيَسْتَطِيعُ أهلُ الْعُرْسِ أَنْ يَحزنوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ بينَهُمْ ؟ وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ فيها يُرْفَعُ الْعَرِيسُ من بينهِمْ ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ” (متّى ٩ : ١٤ – ١٥).

” وإذا صُمْتُمْ” (متّى : ٦ : ١٧ – ١٨).

إذًا، الرب يسوع علِمَ أنّ المؤمنين به سيقتدون به وسيصومون للتقرّب إلى الله والاستعداد للقائه. لذلك قال: على الصائم أن يدهن رأسه ويغسل وجهه، ” أُمّاً أنت ، فإذا صمتَ، فادهُن رأسَكِ واغسل وجهك، لكيلا يظهر للناس أنّكِ صائم، بل لأبيك الذي في الخُفية، وأبوك الذي يرى في الخُفية يُجازيك” ( متى ٦ : ١٧ – ١٨) ، وهذا فعلٌ يمارسه العريس فَرحاً بيومه الكبير، فكما يفرح العريس بيوم فرحه، هكذا يفرح الصائم بصومه، لأنّ الصوم يجعلنا نتخلّى عن شهوات الأرض ليُطلق أرواحنا للقاء المسيح بالروح القدس.

فكلّما اقتربنا من الله بالصوم والصلاة والصدقة المبنيّين على الإيمان الواثق بالمسيح المُخلّص، ولأنّ ممارستنا المسيحيّة لا تقودنا إلى الإيمان، بل على أساس الإيمان نقترب إلى الله بالصلاة والصوم والصدقة وجميع الأعمال الصالحة، أعمال الرحمّة والمحبّة، تُصبح حياتنا مليئة بالفرح والسلام.

الصوم أيضاً يُعبّر عن علاقة خاصّة بالله تنعكس في حياتِنا، “فأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَية يُجَازِيكَ” (متّى ٦ : ١٨). والصوم يترافق أيضاً مع التضحية وبذل الذات والتخلّي عن الأنانيّة، لأنّ الانسان بطبعه طمّاع. فبالصوم نخرج من أنفسنا، لنلتقي بالله ومع أخينا الانسان، وهو ما يؤكّد عليه أشعيا النبي في لهجة غاضبة في الفصل ٥٨ : ١ – ١٢ :

– الشعب يعاتب الله لأنّهم صاموا، وهو لم ينظر إليهم : لقد كان صومهم بدون جدوى .
– الشعب يعاتب الله لأنّهم تذلّلوا ولم يلاحظ : لأنّ صومهم كان حُبًّاً بالظهور.
– صاموا ولم يبارك : لأنّهم امتنعوا عن الطعام، وأبقوا الخصومات والنزاعات.
– صاموا وافترشوا المِسحِ والرماد: صاموا ظاهرياً من دون توبة حقيقيّة نابعة من القلب .
فأجابهم الله على فم إشعيا النبيّ: ” أَلَيْسَ الصوم الذي فضَّلتُه هو هذا: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ وفَكَّ رُبُطِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَاراً، وَتحطيم ِكُلِّ نِيرٍ . أَلَيْسَ هو أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْبائيسن المطرودين بَيْتِكَ؟ وإِذَا رَأَيْتَ العُريان أَنْ تَكْسُوهُ ، وَأَنْ لاَ تَتَوارى عَنْ لَحْمِكَ؟. ” (أشعيا ٥٨ : ١ – ١٢).
في الصوم نتذكّر أنّنا نصوم لنُشبع قلب الله ونفرح به، ولتشبع قلوبنا بالله وبخدمة أخينا الإنسان . الصوم هو رحلة مع المسيح، نموت فيها معه عن خطايانا ، لنقوم معه إلى حياة أفضل .

إخوتي الأحباء :
من صميم القلب، ومع الكنيسة الجامعة التي تستعد بالصلاةِ ليوبيل الرجاء الذي سنعيشه معاً السنة القادمة ٢٠٢٥، اتمنى لكم جَميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة رُوحيّة مشتركة وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً، أساسه الجهاد الروحيّ في تنقية النفس والقلب والضمير لنستحقّ أن نتبعه على درب الآمه المجيدة، تحت عناية الرّبّ يسوع ونظره ، بشفاعةِ العذراء مريـم أُمّنا ، وبصلوات القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر، والقديس اوغسطينوس ابن الدموع مُعلّم الكنيسة الجامعة، والطوباوي الشهيد إغناطيوس مالويان، وآبائنا القديسين .

صدرت عن كرسينا الاسقفي في ٨ فبراير/ شباط ٢٠٢٤
في عيد القديس فارطان ورفقائه شهداء الإيمان
وهي السنة العشرون

9 فبراير 2024

راديو مريم - البث المباشر


This will close in 20 seconds