بقلم صاحب السيادة المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك
للتعمق في حياة النبي مار الياس الحي أطلب منكم قراءة: سفري الملوك الثالث والرابع.
جاء في الكتاب المقدس ان مار الياس، ظهر في أواسط القرن العاشر، قبل المسيح في عهد آخاب ملك اسرائيل الذي حكم مع ولديه من سنة ٩١٨ حتى سنة ٨٧٦ ق.م. وكان يُدعى إيليا ، واسم إليليا ، اسم عبري معناه “إلهي يهوه ” أي: “إلهي هو الله”، وباليونانية “إيلياس” وتستعمل ايضاً باللغة العربية “إلياس”، وهو نبي عظيم عاش في المملكة الشمالية وبما أنه يُدعى “التشبي” يرجح أنه ولِد في مدينة” تشبة” التي كانت على تخوم جلعاد. وكان إيليا رجلاً ناسكاً، بتولاً، وكهلاً جريئاً، قويّ البدن، أشعر الجسم، يتوشح ثوباً من الصوف، وعلى جسمه منطقة من الجلد، لا يهاب الملوك ولا السلاطين وكان يقضي الكثير من وقته في البرية. وكان شديد الغيرة على قيام ناموس الرب وكان الناس يكرمونه كنبيّ، ولشدة غيرته على رضى الرب، حبسَ السماء عن المطر ثلاث سنوات وستة أشهر عقاباً لبني إسرائيل، ولملكهم آخاب، على انحيازهم إلى عبادة الأوثان.
ولما عمّ الجدب بلاد فلسطين جاء قرية” صرفت” بالقرب من صيدا، ونزل ضيفاً عند أرملة كانت تجمع حطباً لتصنع لها، ولإبنها رغيفاً من فضلة الدقيق والقليل من الزيت الباقية عندها، لتأكل مع إبنها، ومن ثم تموت. ولأنها استضافت إيليا، بارك الرب دقيقها وزيتها وكثرهما بنوع عجيب، على يد نبيّه وظلت متوافرة طوال سنوات المجاعة الثلاث.
وكافأها الرب أيضاً، عندما أقام وحيدها من الموت تلبيةً لإبتهالات إيليا، وردَّه إليها سليماً معافى . وقد أشار السيد المسيح إلى هذه المعجزة بقوله : “إن أرامل كثيرات كنّ في إسرائيل في أيام إيليا، حين أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر، وحدث جوع عظيم في الأرض كلّها، فلم يبعث إيليا إلاّ إلى إمرأة أرملة في “صرفت صيدا” (لوقا ٤ : ٢٦ ).
وقد أنزل إيليا النار على الأرض ثلاث مرات، فحرقت في المرتين الأوليتين خمسين بخمسين من جنود احزيا الملك الوثني، وفي المرة الثالثة أضرمت ناره المحرقة والحطب والحجارة التي صنعها فوق جبل الكرمل أمام الشعب لدحض آخاب ملك اسرائيل وكهنته الكذبة من عبّاد الأصنام، فعظم عندئذٍ بنو اسرائيل إلههم وقالوا : ” الرب هو الإله ، الرب هو الإله”! وكان ختام تلك الحادثة تضحية كهنة البعل عند نهر ” قيشون” وكانوا أربعماية وخمسين رجلاً! وتلبّدت السماء يومئذٍ بالغيوم وراح المطر يتساقط على الأرض فيُحييها بعد انقطاع طويل. ولإيليا أحداث تاريخية خارقة ذكرها الكتاب المقدس، لا يفسح لنا المجال لذكرها كافة.
وعندما شاء الله أن يحجبه عن شعبه، لجأ إلى وسيلة مدهشة لم يألفها الناس، ذكرها سفر الملوك الرابع بقوله: “وبينما كان إيليا سائراً مع تلميذه أليشاع يتحدثان، إذا مركبة نارية، وخيل نارية، قد فرقت بينهما وطلع إيليا بالعاصفة نحو السماء وأليشاع ناظر وهو يصرخ: يا أبي ! يا أبي ! (سفر الملوك الثاني ١٣ : – ١٤) … لكنه توارى… وامتلأ أليشاع من روحه مضاعفاً “.
ولما أراد يسوع أن يمدح القديس يوحنا المعمدان دعاه باسم إيليا وشبّهه به حيث قال : “إنه إيليا المُنتظر رُجوعه” (متى ١١ : ١٤).
وكان الملاك جبرائيل سبق فوصف يوحنا بروح إيليا وفضّله لما بشّر به زكريا فقال: “إنه يتقدم وَعَينُ الرَّبُّ عليه وفيهِ روح إيليا وقوّته ليعطِفَ بقُلوب الآباء على الأبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حكمة الأبرار، فَيعِدَّ للرَّبِّ شعباً مُتأَهِّباً” (لوقا١: ١٧). وبقيت لإيليا غاية عهد الله إليه بتحقيقها في آخر الزمان مع أحنوح البار وذلك عند ظهور المسيح الدّجال وعنهما يقول صاحب الرؤيا: “ولكني سأُرسِلُ شاهدينِ عليهما المسوح، يُنبئان… وهذان الشَّاهِدان هما الزيتونتانِ والمنارتانِ القائمتان في حضرةِ ربِّ الأرض” (رؤيا يوحنا ١١ : ٣ – ٤ ). على أن المسيح سيظفر بهما ويميتهما لكن موتهما سيكون علامة إنتصارهما وسقوط جميع قوات الجحيم، وظهور إبن الله الفادي بالعزة والجلال ليدين الناس.
النبي الياس الحي والعهد الجديد:
ما تفسير أنّ النبي إيليا” الحيّ” الذي عاش قبل التجسد، “صعد في العاصفة إلى السماء”؟
ونقرأ في الإنجيل المُقدّس: “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يوحنا ٣:١٣).
إذا عدنا الى النص البيبلي وتحديداً الى (سفر الملوك الثاني ٢:١١) نقرأ:
وفيما كانا سائرين ( إيليا و أليشاع )، وهما يتحادثون، إذا مركبةٌ ناريّةٌ وخَيلٌ من ناريّةٌ فَصلَت بينَهما. وصعِدَ إيليَّا في العاصفة نحو السماء.
العاصفة حملت إيليا، وهنا يفسر علماء الكتاب المقدس: ” ان ايليا ضاع في عاصفة رملية إلى حد انها غطته وطمرته. وقد بحث عنه الرجال ثلاثة ايام فلم يجدوه” فألحُّوا عليه جداً حتى قال لهم: “أرسِلوا” ، فأرسلوا خمسينَ رَجُلاً، فبحٓثوا ثلاثةَ أيامٍ فلم يَجدوه. (سفر الملوك الثاني ٢ : ١٧). و لكن الموت ليس النهاية، فقد أرسل الرب روحه وأخذ إيليا إلى السماء. تلك هي نهاية الإبرار كما يقول سفر الحكمة: ” أما نُفوسُ الأبرارِ فهي بيدِ الله فلا يمسُّها أي عذاب” (سفر الحكمة ٣: ١).
يتحدث القديس يوحنا ذهبي الفم عن “مثوى الأموات”، الذي كان شائعاً الإعتقاد بأنه الحالة التي ينتقل إليها أموات ما قبل التجسد، و يميّز ما يخص إيليا (و أيضاً أخنوخ) عن أنهم من أبرار العهد القديم الذين إستفادوا من نعمة المسيح التي كانت تعمل طويلاً قبل الصلب نفسه، فأعطوا من الرؤية الطوباوية لله. ولكن يستدرك في مقارنة إنتقال السيدة العذراء بإصعاد إيليا أو أخنوخ إلى السماء فيقول أنهم لا يتمتعون بالامتياز الكامل الذي مُنح للعذراء المباركة في إنتقالها بالنفس والجسد الى السماء.
ولمنتظري إيليا قبل مجيء المسيح يجيب الكتاب نفسه في إنجيل متى الفصل السابع عشر حيث دار النقاش بين يسوع و التلاميذ:
“وسأله تلاميذه قائلين: “فلماذا يقول الكتبة: إن إيليا ينبغي أن يأتي أولا ؟ ” فأجاب يسوع وقال لهم: … “إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم” . حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن ” يوحنا المعمدان”.
من الواضح أنّ يوحنا المعمدان أتى ب ” روح ” إيليا أي بزخمِهِ وغيرته على الخلاص.
طبعاً إيليا النبي مات، ولكن ؟؟؟
بدون شكّ ، لا تزال ” غيرته ” على عبادة الله ومحبته له حيّة و لذلك يُطلق عليه: “مار إلياس الحيّ” .
وذكره حيّ إلى اليوم ، يعني كان ومازال مدرسة في التتلمذ النبوي، ومثال في البطولة فوق الضعف…
لم يكن سيفه عنفاً إنما رفع سيف كلمة الله الحافظة للحقيقة والمزيلة للتردّد في العارجين بين محبة الله ومحبة العالم وشهواته وأمواله ومغراياته.
وفي هذا سيظلّ أبداً النبي إلياس “مار إلياس الحيّ”.
مَن منّا لا يطلب مركبة نارية تحمله إلى السماء؟ و ها هو الرب هنا: يرسل روحه القدوس ليحوّل أعماقنا إلى نار حب متقّد، لا يستطيع ماء العالم كله أن يطفئه!!!
فعلّنا كإيليا الحي نفتح قلوبنا لأنّ أبواب السماء مفتوحة لنا وتنتظرنا.
خلاصة حياة مار الياس الحي:
ظهر هذا النبي حوالي ٨٩٠ قبل المسيح. من أشهر أنبياء العهد القديم. اشتهر بالتنسّك والتقشّف الصارم، والتعبّد الخاضع لمشيئةِ الله خضوعاُ مطلقاّ، وبالغيرةِ الناريّة على بيتِ الله. ولهذا سار آباؤنا على خطاه جامعين الحياة النسكيّة إلى القوّة والشجاعة حفاظاً على الإيمان والاخلاق. وقصته مع ملك إسرائيل آحاب وامرأته الكنعانيّة ايزابيل الشهيرة. عندما تمادى هذا الملك باسخاط الرّبّ أُرسل اليه النبيّ فقال: “حيّ الرّب الذي انا واقف أمامه، إنّه لا يكون في هذه السنين ندى ولا مطر إلاّ عند قولي”. وهكذا صار! اضطهده الملك الذي تبع ديانة زوجته تاركاً الإله الحقيقيّ. فهرب من مكان الى آخر صانعاً العجائب. في صرفت صيدا، بارك جرّة الدقيق وقارورة الزيت لتلك الأرملة، فلم تفرغ الأولى، ولم تنقص الثانية. أقام ابن مضيفته الأرملة من الموت.
حياة مار الياس الحي، كانت سلسلة معجزات، وإنتقاله عن هذه الأرض ظاهرة عجيبة أيضاً، مركبة نارية نقلته بعيداً عن عيون الناظرين، وعن تلميذه اليشاع النبيّ، حتى إعتبرته الأجيال حياً مدى الدهر.
النبيّ الياس حيّ في غيرته على بيت الله، وفي مثاله الرائع… فهو مثال الغيور على عبادة الله، المنتقم من الكفّار والظالمين، والمشفق على الفقراء والمساكين… وكلّها صفات ينشدها كلّ انسان يؤمن الايمان الحقّ، ويتخلّق بفضائل القدّيسن.
وخلاصة القول: هكذا جاز الله إيليا فأخذه اليه في مجد، لانه كان أميناً للإله الواحد الحي. هو أول مَن أَسّسَ مدرسة الأنبياء فكان له التلاميذ ومنهم أَليشاع. وبذلك كان إيليا أول من صَنَعَ المعجزات: تكثير الزيت والدقيق في بيت أرملة في صرفت صيدا. هو أول من أقام ميتاً: أعجوبة ابن الأرملة بعد أن مات. هو أول من إختفى في البرية للصوم والإمساك حتى يعود إلى رسالته في مواجهة الأخطار. هو أول ناسك وأول متوحّد ذاق لذة اللقاء والعيش مع الله.
صلاة إلى الربّ الإله طالبين شفاعة مار الياس الحيِّ:
“السلام عليك يا مار الياس الحي، يا نبي الله العلي وصاحب الايمان القوي والغيرة الالهية والسيرة الملائكية. أنت كارز بالحق..قد دحضت الزور ووبخت صانعي الشرور وقرنت القوة المتقدة بالحب المضطرم ، ففتكّت كهنة الأوثان وأهطلت الأمطار بعد أنحباسِها بصلاتِك. فنسألك، متضرعين أن تجعلنا مستظلين وبسنائك مستنيرين، وإذ نلتمس منك المعونة والشفاعة، نلتجئ اليك قائلين: نجّنا من الشدائد والمصائب والشرور ومن فخاخ الأعداء المنظورين وغير المنظورين ردّ عنا الضربات، وأبعد الأمراض والأوبئة، وكُن لنا حافِظاً ومنجّياً ومساعداً في كل ساعةٍ من حياتِنا. وكما قبلت تنهدات الأرملة وأعدّت لها إبنها الوحيد من بعد الموت واحييتَهُ، أقبل تضرعاتنا نحن الملتجئين إليك الآن، سدّد خطواتنا في سبيل البِّر، لكي نحيا حياة نقية مرضية لله ونستحق أن نمجدَّه معك ومع سائر القديسين في السماء إلى الأبد. آمين”.