بقلم الأب أمجد عزت

زمن الصوم هو الزمن المناسب لتكثيف حياة الروح عبر الوسائل المقدسة التي تقدّمها الكنيسة: الصوم والصلاة والصدقة. أساسُ كلّ شيء كلمة الله، التي نحن مدعوّون إلى الاصغاء إليها والتأمّل بها باجتهادٍ أكبر. أودّ التوقّف هنا، عند مصطلح يأتي الى ذهني اليوم وكل عام قبل ازمنة الصوم المبارك وهو “التضامن”. التعريف اللغوي للتضامن يعود للفعل تضامَنَ؛ أيّ التزم أن يؤدِّيَ عن الآخر ما قد يُقصِّر عن أدائه، واسم الفاعل منه مُتضامن. اما عن مفهوم التضامن الاجتماعي يعرّف التضامن الاجتماعي بأنه التعاون والعمل المشترك بين أفراد المجتمع، وذلك من خلال بناء الروابط على أسس مشتركة دون أيّ تمييز مبني على عرق معين، أو جنس، أو أصل، أو سن، أو معتقدات وأفكار سياسية واقتصادية وغيرها من السمات الاجتماعية الأخرى، بهدف تقديم المساعدة دون أيّ مقابل للجهة التي تستحق ذلك.
هذا ما نشاهده ونعيشه بنص انجيل احد الرفاع لزمن الصوم الاربعيني المقدس بحسب الليتورجيا القبطية الكاثوليكية. في انجيل القداس من انجيل القديس متى البشير الاصحاح السادس بداية من الآيات الاولى وحتي الثامنة عشر، تحث كنيستنا المؤمنين وتوجه نظر مؤمنيها الى ان يتبعوا الثلاثية الذهبية وهي الصّدقة والصلاة والصّوم. شريعة إنجيليّة دعا إليها الرّبّ يسوع وتعتلي الصدقة المقدمة لعيش الشريعة وايضًا حياة التبعية تعبير عن التوبة الداخليّة، وارتداد القلب إلى الله، والرجوع عن الخطيئة. وإلّا أضحت هذه الأفعال الخارجيّة عقيمة وكاذبة. هي التّوبة الدّاخليّة التي تدفع إلى التّعبير عنها بعلامات وأفعال ومبادرات.
إنّ ارتداد القلب هو في البداية عمل نعمة من الله تُرجع قلوبنا إليه، كما اعتادَ أن يُصلّي الأنبياء: “أردُدْنا إليكَ يا ألله، فنرتدّ” (مراثي أرميا ٥: ٢١). فالله يعطينا القوّة لنبدأ من جديد. عندما نكتشف عظم محبّة الله، يضطرب قلبنا من هول الخطيئة وثقلها، فنخشى الإساءة إليه والإبتعاد عنه (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ١٤٣٢).
إنّ التعبير عن التّوبة وارتداد القلب يظهر في إذلال الذات أمام الله، لكي يتحنّن علينا. هكذا فعل داود الملك عندما مارس الصوم:”كان لباسي مسحًا وكنت بالصوم أذلّل نفسي” (مزمور ٣٥ : ١٣). وصلّى: “إن ذلّلت بالصوم نفسي، صار ذلك عارًا عليّ” (مزمور ٦٩ : ١١). وحين وبّخ إيليا النّبي الملك آحاب على انّه باع نفسه للشّر في عينَي الربّ، مزّق الملاك ثيابه، وجعل على بدنه مسحًا وصام في المسح ومشى رويدًا رويدًا (ملوك الأول ٢١ : ٢٧).
يشكّل زمن الصّوم الكبير فترة مهمّة من أزمنة السنة الطقسيّة، لأنّه يشكّل زمن تصحيح العلاقات باتّجاهات ثلاثة: مع الله بالصّلاة، ومع الذّات بالصّوم، ومع الإخوة المحتاجين بالصّدقة وهنا تتجسد فكرة التضامن. يدعو أشعيا النّبي إلى ممارسة صوم مقبول من الله وهو: “حلّ قيود الشّر، وفكّ ربط الظلم، وإطلاق المسحوقين أحرارًا، وتحطيم كلّ استكبار. أليس الصومُ، المقبول من الله، أن تكسرَ للجائع خبزك، وأن تُدخلَ البائسين المطرودين بيتك؟ وإذا رأيت العريان أن تكسوه، وأن لا تتواى عن لحمك؟ (أشعياء ٥٨ : ٦- ٧).
إذًا الصوم هو زمن العودة إلى بعضنا البعض بأفعال المحبة والصدقة والرحمة وبالمصالحة. فالصدقة هو موقف القلب، القلب الرحيم، الشفيق، الذي يسعى لتجديد علاقة مع الآخرين. فلا حب بلا تضحية والتضحية بلا حب أمر خارجي. “الصيام وحده لا يوصلك إلى السماء بل يلزمك لتصعد إليها على أجنحة المحبة”. بالصوم يشعر الإنسان بالجوع وبالتالي مع الجائع. ما نصوم عنه ليس من حقنا، وإنما هو من حق الفقير. ما تحرم نفسك منه، قدّمه إلى شخص آخر فهنا يتحقق مفهوم التضامن . الصوم المقبول عند الرب يقول اشعيا النبي “أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟” (اشعيا 58/6) الم يقل المسيح: “تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ … كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متى 25: 34-40). الصوم كالطير لا يطير إلا بجناحين، الصلاة والصدقة. هذا هو الصوم الذي يفضّله الربّ: الصوم الذي يظهر له أيادٍ مليئة بالحسنات وقلبًا ممتلئًا بحبّ الآخرين؛ صوم مليء بالطيبة.
نطلب من ربنا ومخلصنا يسوع المسيح أن يقبل صلاتنا وصومنا ويعطينا دائماً النعمة حتى نسلك دائمًا معه حتى الصليب، ونطلب منه أن يحررنا من ضعفنا وخطايانا، ويباركنا ويقدسنا دائمًا في حياتنا اليومية، وصوم مبارك ومقبول، وكل عام وأنتم بخير.

راديو مريم - البث المباشر


This will close in 20 seconds