بقلم الأرشمندريت د. شحادة عبّود عبّود
المعتمد البطريركيّ
لكنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك لدى الكرسيّ الرسوليّ
يتوق الإنسان، في حياته اليوميّة عامّة، إلى انشاء علاقات وطيدة مع الآخرين الذين يعيشون معه أو من حوله. وفي العصر الحديث، يسعى الإنسان إلى مدّ روابط طبيعيّة ليرسخّها مع شعوبٍ ودولٍ ومنظّماتٍ تقع أيضاً خارج رقعته الجغرافيّة.
إنّ هذا التصرّف الإنسانيّ النبيل يعبّر عن رغبة الإنسان في اللّحمة والوَحدة والشركة مع الآخر. إنّ نوعيّة هذه العلاقات الإنسانيّة تحدّد طبيعة العيش على هذه البسيطة: فإمّا أن يكون زمانَ سلامٍ واتفاق! أو أن يكون زمان منازعاتٍ وحروب!
لنستذكر معاً صرخة قداسة البابا بيوس الثاني عشر يوم الخميس، 24 آب 1939، عندما رفع الصّوت عالياً في رسالته الإذاعية متوجهًا إلى الحكام والشعوب أمام خطر اندلاع الحرب العالميّة الثانية: “لا شيء يضيع مع السلام. ولكن يمكن أن نفقد كلّ شيء مع الحرب. دعِ الرّجال يفهمون بعضهم البعض مرة أخرى. دعونا نبدأ التفاوض مرّة أخرى. ومن خلال التفاوض بحسن نيّة واحترام حقوق الطرف الآخر، سوف يدركون أن المفاوضات الصادقة والفعّالة لا يمكن أن تمنع أبداً النجاح المشرّف”.
إنّ ولادة السيّد المسيح بحسب الجسد بدأت بإعلان الملائكة للخبر السعيد في أن يحلّ السلام على الأرض قاطبة. ولم يكفّ السيّد المسيح عن منح وتعزيز السلام إلى أن بذَل نفسه على الصليب، كما يقول القدّيس بولس: “أنْ يُصالِـحَ بِه كُلّ شيءٍ في الأرضِ كما في السّماواتِ، فبِدَمِهِ على الصّليبِ حُقّقَ السّلامُ.”(كولوسّي 1: 2)
أراد يسوع أن يجدّد الإنسان ويصالِحَه مع الله: “فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ” (أفسس 2: 17). ولقد أعطانا المعلّم الإلهيّ دروساً نافعة لكي نعيش السلام في حياتنا ونسعى إلى ترسيخه وتعزيزه في قلوبنا أولاً ومن ثمّ في كيانِنا وعائلاتِنا ومجتمعِنا ودولنِا من خلال الفضائل المسيحيّة: العدل والعدالة، الصدق والاستقامة، الأمانة والصلاح، الشفافيّة والشفقة، المسامحة واللّطف.
إنّ السلام هو نتيجة العمل الصالح، كما يوجّه البابا إكليمندس الثالث (1 إكليمندس10: 2). والسلام هو نتيجة النصح الأخويّ والابتعاد عن الغضب، كما يذكر تعليم الرسل (تعليم الرسل 15: 3). ولقد أثبتَ البابا القدّيس يوحنّا الثالث والعشرين في رسالته “السلام على الأرض”: إنّ “التعايش بين البشر يكون منظمًا ومثمرًا ومناسباً لكرامتهم كأشخاص، عندما يكون مؤسَّسًا على الحقّ، وفقًا لدعوة الرّسول بولس: لِذلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ، وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ. وهذا يتطلب الاعتراف الصادق بالحقوق والواجبات المتبادلة” (السلام في الأرض رقم 18).
أحبّائي المستمعين لأثير راديو مريم في العالم وجميع العاملين فيه والقائمين عليه أتمنّى في هذا اليوم المبارك أن نجتهد في أن نَدْخُل في السلام، وأن نُدخِل السلام في حياتنا، فلا تَتَداخَل الأمور وتختلط في قلوبنا وفي عقولنا بل لكي نتميّز كما اتّصف آبائنا وإخوتنا الذين لُقّبوا منذ البدايات بأبناء النّور والنّهار وبأبناء المحبّة والسلام.
أعاد الله علينا هذه المواسم الميلاديّة بالخير والبركة والسلام.