بقلم الأب داني قريو الساليزياني

يقدم لنا القديس لوقا الإنجيلي مقطوعة من حياة القديسة مريم العذراء، في زيارتها لنسيبها أليصابات (لو 1، 39-56). فهو يروي بشكل ضمني المحبة الأخوية. تلقت العذراء مريم البشارة بأنها أصبحت أماً. وفي سياق الحديث مع الملاك جبرائيل ينوّه أن نسيبتها أليصابات حامل أيضاً، وينهي الملاك بشارته ويغادر.

هذا الحدث يعطينا درساً مهماً أنّ أي حدث بإمكانه أن يصبح أصيلاً وحقيقياً فقط عندما  يصبح التزاماً نحو شخصٍ آخر، وعندما يتجسد الحب ويصبح زاداً للآخر.

إنَّ بذرة المحبة الأخوية لا يمكن أن تسقط في قلب أي إنسان إن كان منغلقاً على نفسه  -“بيفكر بحالو وبس”- لن تنمو المحبة الأخوية في بيئة منغلقة على نفسها. بذرة المحبة تبرعم عندما يكون هناك فسحة للآخر. عندما أتقبله، عندما أصغي له، في تلك اللحظة تصبح الأرضُ خصبةً وتزهر المحبة الأخوية، في تلك الأرض تنمو الكاريزما التي منحني إياها الرب وتنتج أفضل ثمارها. هذا ما عاشته العذراء مريم. أصبحت البشارة أصيلة وحقيقية عندما قررت السفر، عندما قررت الذهاب إلى بيت نسيبتها، عندما قررت الرحيل.

إن وجودي برفقة الآخر، أو مقاسمته عمله أو رعايته يجب ألا يكون ككرم أخلاق مني! إنما هذه المسيرة هي الخطوة الأولى لأعي شيئاً ما عن نفسي، لأكتشف جانباً مظلماً من ذاتي لم أكن لأدركه سابقاً.

في اللحظة التي  وصلت العذراء مريم إلى بيت نسيبتها أليصابات وألقت السلام عليها، في تلك اللحظة فهمت وأدركت العذراء شيئاً جديداً في البشارة. عندما  وصلت إلى بيت تلك الامرأة التي تثق فيها. عندما تحلت بالشجاعة وفتحت باباً للحوار، بدأت تستوعب رويداً رويداً ماحدث معها. صحيح أن البشارة وقعت، ولكن العذراء مريم لم تكن بعد قد فهمت تماماً ما قد حدث لها.

أين تفشل المحبة الأخوية؟ تفشل عندما أفضّل العزلة عن هذا السفر! عندما أظن أنّ أليصابات، لن تستطيع ان تقول  شيء لي عليه القيمة! أأذهب إلى أليصابات؟ ما الذي يمكنها أن تقدمه  لي؟ “شو قادرة تعطيني أساساً، يادوب تخدم حالها وحدة ختيارة مهرهرة”. عندما أستبعد الآخر من مسيرتي، وكأني أستبعد الله من حياتي! لأن الآخر هو تجسيد لله في حياتي. عندما أستبعد الاخر مع كل الاسباب التي أستطيع أن أبرر تجنبي إياه على أنه: سطحي، أقل كفاءة مني، أقل ذكاءً، ليس من طبقتي، مليء بعقد الطفولة… في تلك الحالة ببساطة أخسر فرصة لقاء الله.  إن للآخر قيمة، ليس لأنه شخص ذو مستوى رفيع، أو ذو منصب مهم… إنما أولاً لأن الله أعطاه قيمة في حد ذاته، ثانياً وجوده يجعلني أكتشف شيئاً ما في داخلي. بالرغم من فقره وضعفه و….

كم هو  جميل أن أعي أن كل حياتي هي رحلة مغامرة ومقايضة في آن معاً. أعطي الذي عندي والله يعطيني ما عنده (عن طريق الأخر). لأن الأخر يحررني لأعبّر عما لم أكن قادراً بعد أن أعبر عنه، يحررني لأستطيع أن أقول أنا أيضا “تعظم نفسي الرب الخاصة بي”.

ماهي تعظم نفسي الرب؟ هي إعادة قراءة حياتي بطريقة حكمية، هي الإدراك أنّ الله يعمل أمراً حسناً من أجلي، بالرغم من كل التناقضات السطحية الظاهرة في حياتي.  إذا لم ألتقي بالآخر لن تتحرر ترنيمة  “تعظم نفسي الرب” الخاصة بي. عندما أتحلى بالجرأة وأقول كنت ذاك! عشت حدثاً صعباً، والله كان بجانبي، الله رافقني، الله قادني… إذا لم نتحلى بالشجاعة للنظر إلى حياتنا بهذه الطريقة، سنختار دائمًا دفء بيوتنا المغلقة، سنختار عزلة منطقنا البشري، سنختار دائمًا الانغلاق على أنفسنا ضمن مجموعاتنا الصغيرة “شلليتنا اليومية”. بدون ذلك لن نختبر  الأمر الوحيد الذي يستحق كل هذا العناء، ألا وهو خطر الرحلة، خطر الذهاب.

نحن نريد ضمان المحبة الأخوية، لكن الرب يدعونا للمخاطرة  والانطلاق  نحو الآخر، فالآخر يحفز فيّ عملية التحرير الداخلي،  يعينني في استعادة قيادة حياته، يساعدني لأهتم بالشيء الوحيد الذي يستحق الحياة ألا وهو فهم وعيش اللحظة الحاضرة، أن أستطيع أن أقرأ تاريخي وحاضره على أنه هدية من الله.

القديس بولس في رسالته لأهل (روما 12/10-12) يشرح تماماً خريطة الطريق في المحبة كيف نعيش؟ وكيف نكون؟ وماذا نفعل؟ لأنه في أغلب الأحيان لا أتجرأ على القيام بالخطوة الأولى، لا أتجرأ الذهاب لأليصابات خوفاً مني ألا أنجح، فأتظاهر بالحب عن بعد. إن لم نمنح أنفسنا الوقت لنكون أيضا هشّين في قدرتنا على الحب، المحبة الأخوية بلا رياء.

“لِيَوَدَّ بَعضُكم بَعضًا بِمَحَبَّةٍ أَخَوِيَّة. تَنافَسوا في إِكرامِ بَعضِكُم لِبَعض” المنافسة تكون في المحبة الأخوية، المنافسة في احترام بعضنا البعض هذه هي المنافسة أن أسابق أخي كيف أخدم، كيف أحب، كيف أضحي أكثر منه. للأسف اليوم العالم يقدم نوع آخر من المنافسة، يستحضرني المثل الذي يقول: الشاطر يلي بينشر الغسيل الوسخ للتاني. يتسابقوا مين بيشرشح التاني أكثر. لأننا في بعض الأحيان نستخدم الأخبار الصحيحة لنؤذي بعضنا البعض. شهادتنا أمام العالم هي أن نحب بعضنا بعضاً. ليس أن أتباهى بأني أفضل منك، إنما أن أتنافس في ألا تكون أليصابات وحيدة، أتنافس في ألا أتخلى عنها في وقت شدتها، أتنافس في أن أسعدها … بهذه العملية بالتحديد أكتشف ذاتي، أفهم ماحدث معي.

“إِعمَلوا لِلرَّبِّ بِهِمَّةٍ لا تَفتُر ورُوحٍ مُتَّقد” أحيانا نتكاسل في عمل الخير. المشكلة أننا ضحايا كسل الحياة الروحية، ليس لأن هذه الرحلة التي يقترحها  علينا الرب، تنطوي على جهد و تعب و نحن لا نحب الأشياء التي ترهقنا. بل ايضاً لأننا أبناء عصرنا، نفضل Spiritual fast food الوجبات السريعة حتى روحياً، نظن أن الجهد مضيعة للوقت. إِعمَلوا لِلرَّبِّ بِهِمَّةٍ لا تَفتُر ورُوحٍ مُتَّقد. دعوتنا أن ننطلق بحماس لأن النار فقط بالنار تتقد، يجب أن نكون فعالين، فالفاترين لا نفع لهم في الحياة الأخوية، ولا نفع لهم في الكنيسة، ولا نفع لهم أيضا لل…

كُونوا في الرَّجاءِ فَرِحين، هناك من يقول من السهل أن نكون فرحين في الرجاء. كلا،  لأن هذا يعني أنه يجب أن نبتعد عن الاكتئاب، مختارين ألا يكون لنا موقف المكتئبين، أن نتوقف عن الشكوى، أن نتوقف عن النظر فقط إلى الجانب السلبي مما نعيشه، أن نتوقف عن رؤية فقط صعوبات الحياة. أن نكون فرحين في الرجاء ، يعني نحن في مسيرة نحوه… ذاك الذي هو أبانا. اليقين بأننا في طريقنا نحو أبينا السماوي الذي ينتظرنا في نهاية هذه الرحلة فاتحاً يديه هذه هي سعادتنا.. وهذا ما  يجعلنا فرحين.

وفي الشِّدَّةِ صابِرين، وعلى الصلاة مواظبين. إنّ أول شيء نقوم به عندما نكون متعبين أو متألمين، هو العودة للانغلاق على أنفسنا. عندما يكون لدى المرء مشكلة، فتأتيه التجربة ليقول: أولاً أحل مشاكلي بعدها أذهب إلى ألايصابات، كلا، إذا كنت تريد حل مشاكلك الخاصة، في تلك اللحظة عينها، عليك أن تذهب إلى أليصابات، في تلك اللحظة عينها عليك أن تذهب وتشارك في القداس، في تلك اللحظة عينها عليك أن تتلو المسبحة. ولكن للأسف في ذلك الوقت أبرر موقفي قائلاً: لا أستطيع، لا أشعر بأني قادر، أشعر أني متعب، غارق في مشاكلي وصعوباتي. ولكن بقدر ما تعطي أهمية لمشاكلك ولصعوباتك، وبقدر ما تعيشها لوحدك، تلك الصعوبات ستسحقك وتقتلك.

هناك من يقول ما الفائدة من البحث عن المحبة الأخوية؟ هي أن نتمتع في عمق ذاتنا بالفرح والثبات والمثابرة، التي لا نملكه بمفردنا، ولكن إن ساعدنا بعضنا البعض، إن استطعنا أن نساند بعضنا البعض تبدأ الرحلة بالاثمار!

ولكن عندما تقول تعلمت هذا الأمر جيداً الآن يمكنني فعله بنفسي، سأخبرك، بأن يسوع لا يطلب هذا منك!!! لأن الرب لا يطلب أن نعمل شيئاً لوحدنا، ربما لوحدنا  نسير أسرع لكن لن نسير طويلاً.

كن بجانب أخيك، أحببه من كل قلبك ستذهب إلى أبعد مما تتوقع، الآخر سيساعد لأن تكون فرحاً وثابتاً ومثابراً. الآخر سيساعدك على أن تهلل  ال “تعظم نفسي الرب الخاص بك” كالعذراء مريم.

راديو مريم - البث المباشر


This will close in 20 seconds