بقلم الخوري وسام الخلاف

صوم ٢٠٢٤

“أقوم وأعود” (لو ١٥، ١٨)، تتجلى في هذه العبارة جوانب عميقة من حياة الإنسان، حيث يوقظ الجسد وجدان الابن الشاطر ويُعيد إلى الذاكرة جوانب البيت الأبوي. إنها رحلة “الجوع” التي تدفع بالإنسان إلى الاستشعار العميق لفقدانه. إنّها الخسارة، مدرسة الشوق والندم، تفتح أبواب الحنين إلى ما فقدناه وما كنا عليه، ففي الظلام نتوق إلى النور، وفي الصحراء نتيقّظ إلى حاجتنا للماء العذب، وفي التعب نتوق للراحة، وفي الطرقات البعيدة، التي فيها نحن تائهون، نتوسل لدفء البيت وأمانه.
هكذا الانسان منذ خلقه، يتمرّد ويعصي ويجنح ويترك الفردوس الذي لأجله خُلِقَ ومن تُرابه جُبِلَ، حاسبًا في هذا تمتعًا بالحرية، وأنّه في الغُربة سيجدُ بيتًا وفي الصحراء فردوس. لكن الحقيقة أنّ النفس الهاربة من الله، تجد نفسها قد دخلت إلى حالة فراغ عميق تشبه المجاعة. إلّا أنّ الله، من فرط حُبّه للإنسان، يستخدم جوعنا هذا لكي يُعيد إلى قلبنا الذكرى والحنين إلى بيت راحتنا، إلى سُكنى الاطمئنان.
وحدها الذكرى تُعيدنا إلى صواب الطريق واستقامة الوُجهة، تمامًا كما عبّر عنها اختبار داود النبي حين صرخ للربّ في غُربة قلبه قائلاً: “تذكّرت الأيام القديمة، هذذتُ في كلّ أعمالك…” (مز ١٣٢). بالذكرى عاد الابن الشاطر إلى نفسه، والشوق يحمله من أرض الذلّ إلى بيت الأب الذي أشبعه خيرًا ورحمةً وسلام. وبالذكرى والحنين إلى الحريّة، خرج الشعب العبرانيّ من مصر العبوديّة ليشقّ طريقه في الصحراء نحو ديار الراحة وفردوس الحريّة من جديد.
وهكذا نحن في زمن الصوم، في أرض غُربتنا التي اخترناها بأنانيّتنا، تشتاق نفوسنا إلى الله كاشتياق الأيّل إلى مجاري المياه (مز42: 1). فنخرج بملء إرادتنا إلى الصحراء، صحراء الصوم والصلاة والتوبة، لنبحث من جديد عن طريق البيت الذي أضعناه بخطيئتنا، لأن نفوسنا تشتاق، بل تتوق إلى ديار الرب (مز84: 2). فنترك خلفنا كل ما يحاول الجسد ورغباته أن يبقينا فيه، نترك أرضًا نحن فيها غرباء لنعبر إلى حريّة الله، إلى بيتٍ لنا، إلى أرضٍ فيها نحن أبناء لا عبيد.
لذا فالصائم وإن كان يعبرُ صحراءً، فهو يمضي بفرح، لأنه يترك سبب ذلّه وعبوديّته ليلاقي شوقه ومبتغاه، فمن تُراه يحزن وهو عائد إلى بيته بعد ضياعٍ طويل؟! بل يفرح بالقائلين له إلى بيت الرب نذهب (مز122: 1).
إنّها مسيرة الروح والجسد المتلازمان، وفيها الجسد مُنبِّهٌ للروح والروح نور الجسد وبوصلته، فإذا ضعُفَ أو جاع أو انكسر، تشتاق الروح إلى راحته وشفائه. تشتاق الروح إلى جسدٍ نقيٍّ، منضبط ومستنير. لذا فإنّ رحلة الصوم، كما رحلة الإيمان، هي مسيرة جسد وروح، نُربّي جسدًا عابدًا بالصوم والانقطاع كما يُربّي الآباء أبناءهم، فنعوّده على أن يشتاق دائمًا للخير الذي من أجله وُجِدّ، ولمبتغاه الأوّل والأخير. لأنّه ليس بالرّوح فقط نشتاق ونعود إلى الربّ، بل بالجسد أيضًا كما قال داود النبيّ: “يشتاق إليك جسدي…” (مز ٦٣: ١).
يُظهر الجسد الجائع حقيقة الضعف البشري والاعتماد الكامل على الله، لذا لا نُصغيَنَّ إلى الأصوات التي تُفوّت علينا فُرصة “العودة” حين يقولون لنا: “الصوم ليس فقط امتناع عن الطعام والشراب…”! لا بل هو كذلك ولا شيء غير ذلك. إنّ الصوم جوعٌ جسديّ نختاره بإرادتنا الحرّة طريقًا يُعتقنا من تسلّط الجسد ورغباته علينا ويقودنا إلى حريّةٍ وفرحٍ حقيقيَّين، فيحوّل الله بنعمته هذا الاختبار الجسدي إلى ربحٍ روحيّ نقطف ثماره نضجًا وفرحًا وسهولةً في اختيار الخير وعيشه.

لذا إلى كلّ من أرهقه ضياع الطريق والبعد عن البيت، إلى كل من يُريد أن يعود… اختر الجوع!

راديو مريم - البث المباشر


This will close in 20 seconds