بقلم الأب أنطونيوس رأفت أبو نصر
كاهن رعية سيدة دمشق للروم الملكيين الكاثوليك بدمشق.
رئيس مكتب شبيبة أبرشية دمشق وريفها والمرشد العام للشبيبة.
تحتفل أبرشيتنا بعيد شفيعتها وصاحبة كاتدرائيتها، التي اختارها الله لكي تكون لحمة الوصل بينه وبين بني البشر، التي تحمل أسمها شعبيًا كنيسة الزيتون أو كنيسة سيدة النياح، أولى المحطات السياحية الدينية وأشهر كنائس سورية التي يعود تاريخ تشييدها إلى أكثر من 150 سنة، وهي أيضاً أكبر الكنائس الملكية الكاثوليكية في العالم وأجملها وأكثرها إتقاناً وأقربها إلى الفنّ الكنسي البيزنطي.
تقع في حارة الزيتون في الجهة الشرقية من المدينة على مقربة من بابها الشرقي ومن أسوار المدينة، حيث يعود عمر هذه الكنيسة إلى بدء تأسيس طائفة الروم الملكيين الكاثوليك في المشرق، والتي بدأت من دمشق.
هذه الكنيسة تعرف بين أهل مدينة دمشق بكنيسة الزيتون نظراً إلى كثرة أشجار الزيتون الموجودة في فناء هذه الكنيسة الكاتدرائية التي كانت موجودة قديماً فيها. ويجتمع اولادها من كل حدب وصوب في بيتهم الامومي ليعيشوا ذكريات الايمان واحيائه تمسكًا بالعادات والتقاليد المسيحية مع ابيهم البطريرك واخوتهم الكهنة واخواتهم الراهبات متضرعين الى الله شاكرين على نعمة امنا العذراء لنا ولجميع الناس في العالم اجمع.
صوم السيدة العذراء هو من الأصوام المهمة والمحبوبة لدى فئة كبيرة من المسيحيين الممارسين مسيحيتهم، ويكاد يقال أن الشعب المؤمن هو من وضعه وفرضه على روزنانة الكنيسة، لأنه حتى القرن الحادي عشر لم يكن ضمن الأصوام المعمول بها بحكم القانون الكنسي، كما لا نجده في أي من قوانين الصوم، وكان هذا الصوم معروفاً بصوم العذراء وأكثر من يصومه هم المتنسكون والرهبان، ثم راح المؤمنون يمارسونه، جاعلين منه مناسبة لتجديد الحياة الروحية فالعذراء شفيعة مقتدرة لكل من يلتجئ اليها لجوء الإيمان والرجاء والمحبة.
للعذراء في الكنيسة المقدسة الجامعة مكانة رفيعة ومميزة في الليتورجيا، لذا لها خمسة أعياد رئيسية تتعلق بها مباشرة: عيد ميلادها في (8 أيلول)، عيد دخولها (21 تشرين الثاني)، عيد دخول السيد الى الهيكل (2 شباط)، عيد بشارتها (25 آذار)، عيد رقادها (15 آب)، بالاضافة لعدد آخر من الاعياد المرتبطة بمريم العذراء.
لم يذكر الكتاب المقدس شيئاً عن انتقال العذراء بالجسد والنفس، ولا عن تقديم العبادة الدينية الى مريم العذراء. نعم دعيت العذراء من الملاك ممتلئة نعمة من الرب ومباركة في النساء، وهي حل عليها روح الله، ولكن لا ينتج من هذه العبارات أن تكون موضوع العبادة. لكنها من حيث هي والدة ربنا يسوع المسيح فهي تستحق منا كل الإكرام والتمجيد، لأن التكريم ليس هو العبادة، فالعبادة لله الرب يسوع المسيح وحده. إلا أن الآباء في ميامرهم (عظاتهم) أوردوا كثيراً من آيات الكتاب المقدس التي تدل على انتقال العذراء، مثلاً كقول داود “قم يا رب الى راحتك أنت وتابوت قدسك” (المزامير131:8)، ويذهب تفسير الآباء الى أن المسيح أدخل الى السماء الجسم الذي منه ولد ولادة زمنية؛ أيضاً ” قامت الملكة من عن يمينك بألبسة مزخرفة منسوجة بخيوط مذهبة” (المزامير45:9)، نرى في هذه الآية مريم موشاة بحلة ملوكية قائمة على يمين السيد. وهناك آية من رؤية يوحنا “وظهرت علامة في السماء امرأة ملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً ” (رؤية12:1).
هذه الآيات لا تنطبق على انتقال مريم العذراء الى السماء، إلا بالمعنى الرمزي. لكن المصدر الذي استقى منه الآباء انتقال العذراء الى السماء، هو الكتاب الذي كان متداولاً لدى الغنوصيين في القرن الثالث والذي يورد خبر رقادها وصعودها، وهو من جملة كتب الإبوكريفا التي تحمل سيرة مريم العذراء والتي أخذت عنها الكنيسة.
بدأت الكنيسة تتداول هذه الرواية في السنين الاولى بتحفظ شديد ما بين القبول والرفض، حتى القرن السادس. ولكن بسبب ظهور البدعة النسطورية، تقبلت الكنيسة ما يختص بتمجيد العذراء وكرامتها من التراث التقليدي المتوارث. لذا قام كثير من الآباء بتثبيت هذه الرواية في كتاباتهم وعظاتهم، ومن أبرزهم القديس مودستيوس الاورشليمي واندراوس الكريتي.
وفي أواخر القرن السادس كتب القديس غريغوريوس الكبير كتابه في الأسرار والذي نقرأ فيه عن رقاد مريم وصعودها. وفي أواخر القرن السادس أيضاً، كتب القديس غريغوريوس أسقف تور كتاباً بعنوان “بمجد الشهداء” جاء فيه: “… أن الرب رفع جسد البتول ونقلها بين السحب الى السماء”. وهناك عظات شهيرة تشهد لهذا العيد ألقاها القديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية والقديس يوحنا الدمشقي. كما تكلم عنه يوحنا التسالونيكي في النصف الأول من القرن السابع.
فهلُمّ يا أيها الأبناء الأحباء لنجتمع جميعاً ولنكرم معاً وبصوت واحد، سيدتنا مريم نصيرة المسيحيين في يوم انتقالها المجيد متضرعين منشدين: “في رقادك ما تركت العالم يا والدة الإله. فإنك انتقلت إلى الحياة بما أنك ام الحياة. وبشفاعتك تنقذين من الموت نفوسنا”.